د . عدنان جواد الطعمة
توكلنا على الله و سافرنا صباح يوم السابع من مايس 2016 في الساعة الثامنة وأربعين دقيقة قاصدين مدينة بلاو بويرن لغرض مشاهدة العين الزرقاء أو كما تسمى القدر الأزرق .
وهذه المدينة الجميلة كانت الأولى ضمن رحلتنا الرائعة إلى بحيرة بودن سي . كانت الأمطار تهطل بغزارة على طول الطريق و بعد المسافة . وفي الساعة الحادية عشر عملنا نصف ساعة إستراحة ، حيث شربنا الشاي و ارتحنا بعد إجتيازنا مدينة فيرتسبورغ .
غادرنا موقف السيارات في الساعة 11 و نصف فوصلنا مدينة بلاو بويرن في الساعة الواحدة و خمسين دقيقة ظهرا . ذهبنا إلى الفندق و وضعنا حقائبنا وارتحنا قليلا .
ثم نزلنا إلى مطعم الفندق وتناولنا طعام الغداء و شربنا القهوة . ثم خرجنا من الفندق و سرنا مسافة ست دقائق فوصلنا العين الزرقاء أو القدر الأزرق كما يقولون .
كان المنظر جدا رائعا و لون العين التي تتدفق منها المياه أزرق يميل إلى اللون الأخضر . وكنا نسمع خرير الماء الذي ينحدر و يسيل كشلال رائع . وأمام الشلال على جهة اليمين يدور الناعور و قبله ساقية يتدفق و يسل الماء بسرعة إلى الناعور الملاصق بورشة الحداد التاريخية .
وعلى جانب أو صفحة الناعور يطل مقهى أو مطعم جميل لإستراحة السائحين والزائرين . بدأت بالتقاط الصور من بداية السياج و سرت باتجاه الغابة المطلة على الحوض أو القدر الأزرق الكبير أو العين الزرقاء مستخدما كامرتين و حاملا كبيرا و عدستين إحداهما عريضة .
بقينا حوالي أكثر من ساعتين ونصف ثم ذهبنا إلى ورشة الحداد قبل انتهاء الدوام .
إشترينا بطاقتين للدخول إلى الورشة فاستقبلنا شاب وسيم الخلقة و رحب بنا مبتسما و سألنا عما نحب أن نشاهد
و نسمع منه عن تاريخ هذه الورشة و ماذا يصنع هو فيها . أخذ الشاب أندرياس Andeas Ulrich يشرح لنا تاريخ ورشة الحداد . ثم أخذ يرينا أعماله الإبداعية والأشياء التي صنعها و يصنعها دائما .
أرانا بادئ الأمر سكينا من نوع فولاذي لا يصدأ مع قبضة جميلة من خشب شجرة الزيتون . سألته ما سعرها أجابني 550 يورو أو دولار . إنها جدا حادة مثل موس الحلاقة . ضحكنا وقلت له يستفيد الصيادون
و الجزارون أي القصابون من هذا السكين . ثم أرانا مجموعة أخرى من أعماله . و قال لي سأصنع لك قلبا صغيرا هدية مني تعلقه على صدرك و تذكرني بالخير . و سوف تشضاهدان كيف أصنع قلبا مسطحا من قضيب حديدي أو فولاذي أسطواني قطره ثلاث أو أربع سنتيمترات .
رحبنا بهذه الفكرة ثم ذهب إلى الحائط المجاور للناعور و جلب قضيبا طوله أكثر من متر . ثم فتح الغاز و بدأ لهب شعلة النار بالإضاءة و أغمس رأس الأنبوب في النار .
وفي أثناء ذلك سألته أين تعلمت مهنة الحدادة أو الحداد ؟
صمت قليلا وبدأ يقص علينا سيرة حياته و تحدث إلينا عن ثلاث قصص و حكايات :
القصة الأولى :
عندما كان طفلا في عمر ست سنوات تقريبا ، لم يلمس حنانا و رعاية من الأبوين
كانت تحدث مشاكل بين والديه بكثرة الأمر الذي أدى إلى أن يقوم والده بطلاق أمه ، لأن أمه كانت تضربه و تعيط عليه دائما دون سبب . إحمر وجه أندرياس و قال لم أشعر بالسعادة يوما واحدا عند أمي .
كان عندي جد عندي شفوقا و حنينا لاحظ أن أمي تضربني باستمرار و أوقفها عند حدها و تبناني واخذني إلى بيته . كان جدي يعطف علي كثيرا و يعلمني و شجعني للذهاب إلى المدرسة .
كانت مهنة جدي حدادا فكان يعلمني كل شيئ في هذه المهنة . فكنت أشعر بالسعادة والأمان عنده . أشفق علي و منحني كل حنانه و حبه و عوضني عن حنان أمي وأبي لمدة 13 سنة إلى أن اجتزت إختبارا في مهنة الحدادة وأصبحت ماسترو أي ماهرا جدا وحصلت على الأعتراف بمهنتي لمزاولة الحدادة .
قال أندرياس انه يحب مهنته لأنها تذكره بجده المرحوم الذي توفي قبل ست سنوات . ثم اردف متحدثا وبدأت دموعه تسيل على وجنتيه وقال لنا أن جده بالنسبة له هو الأب والأخ والصديق والجد لا يمكنني أن أنساه لأني
أذكره بالخير كل لحظة عندما أدخل هذه الورشة التي كنا نعمل فيها لمدة 13 سنة . فأنا أحيا بحب جدي كل يوم وهذه الورشة بيتي لأني أسعد بذكرى المرحوم جدي . بكيت في داخلي معه و بكت زوجتي عندما سمعت قصة أندرياس مع والديه .
لاحظ أندرياس بأننا تعاطفنا معه كثيرا لأن قصتة لامست شغاف القلب فواسيته ومنحتح كل حناني و حبي . قلت لزوجتي الكريمة لو كانت كل عائلة لديها ولدا بارا وفيا مثل أندرياس لأصبحت المجتمعات سعيدة جدا بغض النظر عن القومية والدين أو اللغة .
قلت لأندرياس علينا كبشر أن نعطف على كل من يستحق الحنان و المواساة والمساعدة قدر إمكاننا لأننا إخوة في الخلقة خلقنا الله سبحانه و تعالي من نطفة أمشاج ومن التراب وأبانا واحد هو آدم عليه السلام وأمنا حواء .
القلب و السكين
القصة الثانية :
قال أندرياس بأن رجلا كاهلا دخل ورشتي مع زوجته وكان الرجل ضعيفا مطأطئ الرأس ومنحنيا ظهره .
وكنت أنا أشتغل و أطرق على قطعة حديدية لعمل سكين أو حدوة الفرس وأن الرجل العجوز ظل ينظر إليّ بنظرة كئيبة التي أزعجتني جدا . قلت له مابك ولماذا أنت حزين تنظر وكانك تموت غدا . أجابتي أنا كنت حدادا ماهرا مثلك ، لكني الآن متعب جدا .
طلبت منه أن ينزل إلى تحت وبدأنا نعمل سوية إرتاح الرجل وفرح معي فانتهض وبدأ يعمل بنشاط معي و بعد حوالي ساعة ذهب مرفوع الرأس و عادت ثقته بنفسه فرحا وشكرني جدا وكذلك زوجته لأني شجعته على العمل .
القصة الثالثة :
تحدث أندرياس قائلا أتاني رجل طالبا مني مساعدته لحل مشكلته . قال الرجل لي بأن لديه أثاث دولاب أو خزانة أو كنتور ملابس قديم جدا يعود إلى عائلته إلى ما يقارب 200 سنة و من خشب الأبنوس أو الصاج ومثل
هذا الدولاب كان الملوك و الأثرياء يستعملونه سابقا لأنه قطعة فنية نادرة مكانها المتاحف.
قال أندرياس أن الرجل أراد أن يستعمل المسامير لتثبيت أبواب و خلفية الدولاب . قلت له هل أنت مجنون ؟
لا يجوز إستعمال أي مسمار أو مطرقة على هذا الدولاب النادر، لأنه تحفة ثمينة .
قلت له صأصنع لدولابك حيات كوبرى من القضبان الحديدة لتثبيت أبواب الدولاب بدون إستعمال أي مسمار أو طرقة .
ثم استمر أندرياس بالطرق على الأنبوب عدة مرات وأنهى القلب المسطح كما ترون صوره و أغمسه في الماء البارد وقدمه لي هدية أعتز بها . لكني قدمت له مبلغا يعادل ثمنها فرض أن يأخذه فقلت له هذا المبلغ هدية مني لك .
إشترت زوجتي حية الكوبرى منه . و عندما أردنا مغادرة الورشة بعد مضي ساعة قال لي سأهديك سكينا حادا صنعته لكن كن حذرا منه لأنه حاد جدا .
وأثناء حديثنا أخبرته بأني سأكتب عنك وعن مهنتك . فرح أندرياس و غادرنا الورشة شاكرين و مسرورين
وفي الصباح التالي ذهبت إليه و طلبت منه أن يكتب لي إيميله لأني لم أجد إيميله في بطاقته .
فشاهدت مجموعة أطفال مدرسة مع معلميها يشاهدون أندرياس كيف يعمل لهم سكينا .
و عندما شاهدني أتاني و حياني وطلبت منه كتابة إيميله . و بعد ذلك ودعته و خرجت
تقبلوا مني خلص ودي و احترامي
د .عدنان
ألمانيا في 14 مايس 2016