عنوان الموضوع : رائحة الموت ، قصة من فصول رائعة
مقدم من طرف منتديات الشامل



بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته





القصة منقولة عن الكاتب : عبد الله ناصر الداوود




1



في إحدى ملاهي مدينة الرياض ، كنت واقفا مع زوجتي ، نراقب ابنتنا ندى ذات العامين تلعب في إحدى الألعاب الكهربائية ، كانت البنت يبدو عليها البرود وعدم الاهتمام باللعبة ، ولم تكن فرحة جدا باللعب كما غيرها من الأطفال . كانت ندى بطبعها هادئة جدا ، تذكرني بهدوئي عندما كنت صغيرا ، كان أهلي يمتدحون ذلك الهدوء ، وذلك الصمت الذي يعتريني أحيانا ، كنت وقتئذ استمتع بمنظر الوجوه وهي تتحدث ، وأبدأ أحلل النظرات والكلمات بطريقتي ، ولم أكن ألجأ إلى هذه الطريقة دائما بل في كثير من الأحيان . وحيث أن الشخص يحب نقيضه في الأمور التي لا يحبها ، لذا كنت فرحا جدا ، عندما رزقنا الله بزهرة أخرى تختلف عن أختها ، زهرة أخرى بعبق مختلف ، أضفت إلى البيت رائحة أخاذة ، فقد كانت غادة تحب اللعب ، كثيرة الحركة واللهو ، تستجيب لما تقوم به من كلمة أو حركة أو لهو ، كما أنها تعبر عما في داخلها أريد هذا ولا أريد ذاك ، وصوتها يملأ البيت بكاء وصراخا وحديثا . كبرت غادة وأخذت تلعب مع أختها ، وأصبح البيت يعج بالحركة و الصخب ، على الرغم أنه لم يكن هناك تشاحن أو خصام بينهما ، نظرا لطبيعة ندى الهادئة والمتسامحة ، وكذلك لم تكن غادة ذات مشاكل ، كل ما في الأمر أن البيت أخذ يسمع له صوت . في الشهر الحادي عشر خطت غادة خطواتها الأولى ، وبدأت تدب على قدميها ، فأصبح لها رونق آخر وهي تسير في أرجاء شقتنا وبجانبها أختها تمسك بيدها ، تسير بها هنا وهناك ، يلعبان معا ويلهوان معا ، ويذهبان معي إلى البقالة لشراء بعض الحلويات والحاجيات . كما بدأت غادة في نطق بعض الكلمات البسيطة ، زادتها جمالا ، وجعلنا نستمتع برنين تلك الكلمات وطريقة نطقها ، وكذلك حديثها مع أختها وكيف يتفاهمان معا . بمرور الأيام بدأنا نلاحظ تقوسا في قدمي غادة ، كانت تسير وتتمايل تقريبا يمينا وشمالا ، وللحق فقد كنت اعتقد أن حفاظ الأطفال له دوره في ذلك ، لكن إحدى قريباتي هي التي نبهتنا لذلك ، وذكرت أن الحفاظ لا يعمل ذلك التمايل الشديد . ذهبت بها إلى أحد المستشفيات الحكومية الكبيرة ، وأجرينا لها بعض الفحوصات اللازمة ، فاتضح أن لديها نقصا في فيتامين ( د ) ، ونصحونا أن تتعرض البنت لأشعة الشمس ، فهي أكبر مزود للفيتامين ، وأعطونا كذلك شرابا تأخذ منه البنت خمسين نقطة لمدة شهرين ، ثم خمس نقط يوميا ولعدة أشهر ، كما أخذت أمها تسقيها وتدهن قدميها بشراب ( الحوت ) بناء على نصيحة الأمهات . كم أتذكر تلك اللحظات التي تكون فيها غادة سعيدة ، تلعب بألعابها أو مع أختها ، وعندما يحين موعد الجرعة تناديها أمها ، ثم تفتح البنت فمها ، وعن طريق حقنة بلا إبرة تدفع سائلا مرا من فيتامين دال داخل فمها ، ولشدة مرورته ، كانت تقف قليلا و يتغير وجهها ، ثم تعاود نشاطها من جديد . بعد مرور فترة من العلاج ليست فصيرة ، تحسنت حالتها كثيرا ، وبدأ التقوس يتعدل ولكن ببطء ، وذهب قليل من ذلك التمايل الذي كان يظهر عليها أثناء مشيها ، فحمدنا الله على ما تحقق ، ثم سارت الأيام بنا جميلة إلى أن بدأت الحكاية .. .




>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================




2


في مساء يوم أحد ، اصطحبت غادة معي في مشوارٍ سريع ٍ إلى قريب لي لأعطيه غرضا ما ، كان عمرها وقتئذ سنة وستة أشهر ، وقفت بالسيارة أمام العمارة التي فيها شقته ، وجاء قريبي وأعطيته الغرض ، ومن عادته أن يلاعب غادة قليلا ، لكنها لم تتفاعل معه كعادتها ، أثار ذلك انتباهي . في طريق عودتنا إلى البيت لاحظت في وجهها شحوبا ، قلت لعله من آثار مرض الزكام الذي أصيبت به قبل أيام ، وعندما وصلت البيت حكيت ذلك لأمها الذي وافقتني على ذلك التفسير . سارت أيامها القادمة على ذلك الكسل والخمول والوجه الشاحب ، حتى جاء صباح يوم الجمعة ، فقد استيقظت معي في العاشرة صباحا ، وتناولنا إفطارنا معا ، وبدأت في قراءة الصحف ، بينما كانت تلعب بجانبي بوجهها الشاحب ، عندما عدت من صلاة الجمعة وجدتها نائمة ، استغربت الأمر ! فلم يكن من عادتها أن تنام مرة أخرى بعد استيقاظها ، فضلا عن نومها باكرا ليلة الجمعة ، واستمرت في نومها حتى الرابعة عصرا . في تلك الأثناء كنا نتناول غداءنا في صالة الشقة ، عندما استيقظت وأقبلت علينا بوجهها الشاحب المتكدر ، و بمشية غير متزنة ، فقدكانت المسافة من غرفتها إلى الصالة ثمانية أمتار تقريبا ، مشت خمسة منها ثم سقطت على الأرض وهي تبكي ، نهضت من مكاني وحملتها ووضعتها بجانبي . بدأت تظهر منا بعض التفسيرات لسقوطها : - لعلها شوكة في قدميها .. - بل لعلها قطعة زجاجة .. - أو لعلها دعست على شيْ آلمها .. - بل لعلها .. تحسست قدميها بيدي ، لا أثر لشيْ ، ولم تصرخ بمرور يدي عليها ، ومازلت تبكي متكدرة ، أكملنا غداءنا ، واستعدينا للخروج ، فلديهم زيارة لأقاربهم ، وبدأنا نعتبر الأمر عاديا كونه أمر عارض سيزول . في المساء اتصلت عليّ أمها ، لتخبرني أن البنت رغم أنها لم تمشي فقد بدت سعيدة ، وأنها تلعب مع الأطفال وتتفاعل معهم . في ظهر السبت ولما عدت من العمل ، كانت في الصالة هادئة ، جالسة بوجهها المتكدر ، سألت أمها عنها ، قالت : لما استيقظت لم تمش ، فحملتها ووضعتها في الصالة .. ذهبت إليها ، حملتها ، وقبلتها ، حاولت معها أن تمشي فرفضت كليا ، تحسست قدميها مرة أخرى ، لا يبدو هناك شيْ !حركت قديمها وحاولت منها أن تدفعني بقدميها ، فإذا هما قويتان وتحركهما بطريقة طبيعية ! لكن البنت في نهاية الأمر ترفض المشي على قدميها !! قررت الذهاب بها إلى طبيب ، ولكن ليس أي طبيب ، فالحالة ليست مرضا عاديا كزكام أوكحة ، بل هو أبعد من هذا ، إنها قضية مشي ، كان هناك طبيب له سمعة طيبة يعمل في مستوصف ، لكنها لا يعمل إلا ما بعد الثانية عشر ليلا .. ومع ذلك قررنا الذهاب إليه ، فهو الأفضل . في تمام الحادية عشر ليلا ، كنا في المستوصف ومعنا غادة التي مازالت مصرة على عدم المشي ، كان رقمنا أربعة في سجل المنتظرين ، ... في تمام الثانية عشرة وصل الطبيب ، وبعد نصف ساعة جاء دورنا ، كنا في لهفة تامة لمعرفة سر عدم المشي ، دخلنا على الطبيب ، أخبرناه بالأمر ، فحصها ، قال : لديها زكام سيذهب بمرور الأيام ، قلت: لا يهمني أمر الزكام المهم لماذا لا تمشي ؟! طلب الطبيب منها المشي ، فرفضت تماما ، أنزلتها وطلبت منها أن تمشي وشجعتها بحلوى ، رفضت أيضا ، فحص قدميها ، ثم قال : قد يكون هناك شيْ ما في قدميها ، والطفل يخاف أكثر لذا تجده يرفض المشي لوجود ما يؤلمه .. أكد لنا أن لا شيْ يعيقها عن المشي ، ولكن اصبرا عليها قليلا ، حتى يزول ما في قدميها أوتنسى أمره ، وستعود للمشي مرة أخرى . في تلك الليلة ، عاد إلينا بصيص أمل من كلام الطبيب ، فهو أدرى منا بأي حال ، ولعله كما قال أمر عارض وسيزول ، ولم نكن نعرف أن الأيام كانت تخبي لنا مناظر مرعبة





__________________________________________________ __________


3


عندما عدت من العمل ظهر يوم الأحد ، كانت غادة في الصالة جالسة ، كانت تحاول فتح بسكويتا ، فلاحظت أن يدها اليسرى ترتعش ، كما ترتعش يد المصاب بالشلل الرعاش ( باركسون ) ، هالني المنظر وأفزعني ، ترى ماذا يحدث ؟ وأي مرض هذا الذي تعاني منه البنت ؟! فتحت لها البسكويت ، ثم حملتها ، وذهبنا إلى المطبخ حيث أمها ، فسألتها عن البنت وماذا فعلت اليوم ؟ فقالت : استيقظت اليوم ، ولم تمش كعادتها ، فحملتها ووضعتها في الصالة. لم أخبرها برعشة اليد التي رأيت ، فلا أريد أن أزيدها خوفا وقلقا ، عدت للصالة ، جلست انظر إلى ابنتي بقلب وجل ، ومئات الاستفهامات تتصارع في ذهني ، آه لو كنت تتكلمين وتخبرينا ما بكِ ؟ ومم تشكين ؟ لاحظت أن يدها لم تعد ترتعش ، واكتشفت أنها إذا أرادت التركيز على شيْ ما فإن الارتعاش يعود إليها ، مما يزيد استفهاما جديدا على تلك الاستفهامات .

قررت أن أذهب بها إلى مستشفى الأطفال عصر اليوم ، عند الواحدة ظهرا ، ذهبت إلى غرفة النوم ، فأنا متعود أن أنام بعد الظهر ، رميت ذلك الجسد المتعب من العمل ، والذهن المتعب من كثرة التفكير ، والخوف مما يخبيه المستقبل ، وبعد كثرة التفكير استسلمت لنوم مضطرب .

بعد نصف ساعة فقط ، استيقظت على صوت بكاء ، أخذ قلبي يخفق بشدة ، وأنفاسي تتسارع ، فتحت عيني،وبدأ تركيزي يعود إلي ، كانت أمها تبكي وتقول : لابد أن نذهب بها إلى طبيب آخر ، فالبنت لها عدة أيام وهي لا تمشي ، جاء أولاد الجيران ، حاولت أن تمشي لكنها لم تستطع ، فكلما نهضت وقعت مرة أخرى ، فأخذت تزحف وهي جالسة ..! هل جرّب أحدكم أن يستيقظ على صوت أحد يبكي بحرقة ؟ كم هو مؤلم ! وكم هو مرعب ! أدعو الله من كل قلبي أن لا تروا ما رأيته .. فما رأيته شيْ فظيع لا يحتمل .. شعور لا يمكن وصفه يتراوح بين الفزع والاكتئاب . جلست على السرير وبدأت أفيق تماما ، طمأنتها أنني قد قررت أن نذهب بها مستشفى الأطفال عصر اليوم ، وستكون الأمور على خير إن شاء الله . نهضت من سريري ، وذهبت إلى حيث البنت ، كانت تتابع الأطفال بنظراتها دون أن تنهض لتلعب معهم ، عادت تلك الأسئلة تتصارع في ذهني مرة أخرى ، بدأت اتفحص قدميها مرة أخرى ، لعل وعسى ، مررت أصابعي ثم راحتي على أسفل قدميها ، لم يبدو شيْ ، ولم تتألم لوجود شيْ ، حاولت معها أن تنهض فرفضت ، ولكن مع ذلك كانت قدماها قويتان تحركهما وتدفعما بقوة .

في الخامسة عصرا ، انطلقت بنا السيارة إلى مستشفى الأطفال ، البنت في حضن أمها تمسح على شعرها وتقرأ عليها آيات من القرآن الكريم ، وندى في الخلف طفلة صغيرة ، لا تدرك ما يحدث أمامها ، ترقب بيعينيها البريئتين الشواراع والسيارات . بينما أطبق علي صمت مطبق ، أفكر في حل لهذا اللغز المحير ، عدت أحاول الإجابة ، لعله نقص فيتامين دال ، ولكن مستحيل فالبنت قد تحسنت جدا عن ذي قبل ، جلست أنظر إليها وأسألها في داخلي : -ترى ما بك يا ابنتي ، ماذا حلّ بك ؟ وماذا دهاك ؟ آه لو تتكلمين وتحكين لنا مم تشكين وبماذا تشعرين ؟ قلوبنا تخفق مما أصابك الذي لا نعلم له سببا ولا ندرك طبيعته وحقيقته . كانت البنت في حضن أمها ، بوجه شاحب وعينين تخفي في داخلهما الكثير من الأسرار ، كم تمنيت أن تبوح لنا ببعض ما فيهما ! خرجت من صمتي وبدأت أطلق على زوجتي عبارات التفاؤل ، رجلاه قويتان ، البنت سليمة بإذن الله ، لعله أمر عارض يذهب سريعا ، كنت اريد رفع المعنويات وبث قليلا من الحياة داخل السيارة التي ساد عليها الحزن والكآبة ، أب أرهقه التفكير وأم يعتصر قلبها الألم ، وطفلة غامضة لم تعد تمشي فجأة ، وتخفي سر ذلك في داخلها ، وطفلة أخرى تكبرها لا تدرك مدى مرارة ما يحدث أمامها .

وصلنا إلى المستشفى ، ونزلنا بقلوب تخفق لهفة لكشف السر وخوفا من مفاجأة مؤلمة ، كان المستشفى يعج بالأطفال وصراخهم يملأ المكان ، توجهت إلى مكتب الاستقبال ، سألنا الموظف عن اسم المريض ونوع الشكوى ، أخبرناه أن البنت لم تعد تمشي من يومين ، وبسرعة أشار إلى ممر وقال : هذه حالة اسعافية .. اذهبا من هنا .. أسرعنا الخطى نحو الممر ، كان في نهايته طبيب سعودي ، سألنا عن نوع الشكوى ، فذكرت له أن البنت لم تعد تمشي منذ يومين ، فأظهر اهتماما ثم أشار هو الآخر نحو ممر قائلا : من هنا لو سمحتم . كانت طريقتهما ، حتى وإن لم تكن مقصودةكافية لإثارة نوع من الخوف كان كافيا لأن تجهش الأم في بكاء خارق ، بينما تعلقت ندى بطرف ثوبي من الخلف وأخذت تبكي خوفا من بكاء أمها . وصلنا إلى المكان الذي أشار إليه الطبيب ، ووجدنا أنفسنا أمام طبيبة ،سألتنا عن نوع شكوانا ، فحكيت لها قضية المشي . كان يقف بجانب الطبيبة طالبان من كلية الطب بدا أنهما في سنة الامتياز ، فقد أخذت تشرح لهما عن حالة غادة ، حيث أخذت تخلط العربية بالانجليزية ، قائلة إن شكوى الأب بأن ابنته لا تمشي ، بينما هي خائفة وتطبق برجليها على جسم أبيها ..

أثارت الطبيبة غضبي ، فقد أخذت تشرح للطالبين ، ولم تراعي تلك الحالة السيئة التي كنا فيها ، وخاصة أنها كانت تشير بقلم رصاص على قدمي غادة التي ممسكة بي وتبكي خائفة ، وأمها تبكي هي الأخرى وندى أرعبها بكاء أمها ، فكان منظرنا يدعو للشفقة . قاطعت شرح الطبيبة غاضبا : ماذا سنفعل الآن ؟ قالت : لابد من تنويم الطفلة ليوم واحد حتى نعرف سبب عدم مشيها .. ثم أشارت إلى مكان نذهب إليه لنكمل إجراءات تنويم الطفلة . زاد بكاء الأم ، وزاد خوفي على ابنتي ، يبدو أن الأمر ليس بالهين ، مجرد فحص سريع ثم علاج ، أو تحليل ونتيجة ، بل الأمر أكبر من ذلك ، تنويم وعلاج قد يطول .






__________________________________________________ __________


4



وصلنا إلى المكان المحدد ، استقبلتنا ممرضة ، فأخذت بعض البيانات ، الاسم والعمر ونوع الشكوى وتاريخها ،ثم اتصلت بالهاتف على قسم التنويم لتستفسر عن رقم السرير الخالي .
طلبت زوجتي إحضار حقيبة بها بعض الملابس لها وللطفلة ، وطلبت أن أضع ندى عند أختي ، فقد يطول تنويم البنت .
عدت للطبيب الذي استقبلنا أولا ، وسألته عن حقيقة مرض ابنتي ، لم يذكر لي ِشيئا ، بل قال هناك أسباب كثيرة لعدم المشي ، وأن الأشعة والفحوصات والتحاليل ستبين كل شيْ ، زاد قلقي وبدأ قلبي يخفق بشدة ، وبدأت الاحتمالات السيئة تلوح في ذهني .

أمسكت بيد ابنتي ندى ، وبدأت أسير في ممرات المسشفى بلا هدى ، كنت كالمخنوق ، وضاع تركيزي وتفكيري ، ركبت السيارة وانطلقت بها بفكر تائهة ، وابنة تجلس بجانبي تسألني بلا كلل : ليه تركنا ماما وغادة هناك يا بابا ؟ ليه غادة ما تمشي زي أول يا بابا ؟ وليش أخذوها ؟

زادت ندى بأسئلتها وببراءتها آلامي ، حاولت بأسلوب مبسط تفهمه ابنة الأربع سنوات أن أشرح لها أن غادة وماما سيعودان غدا ، كنت أشرح ذلك وأنا مشفق عليها ، فقد وجدت نفسها فجأة بلا أم ولا أخت وقريبا بلا أب .
رحماك يا الله .. ذهبنا أربعة وعدنا اثنين ، وبعد قليل سنتفرق أكثر .. بنت مريضة في المستشفى الله أعلم بحالها ، وأم قلبها منفطر مع ابنتها ، وبنت أخرى صغيرة ستعيش بعيدا عن أمها وأبيها ، وأب قلبه منقسم بين الجميع .

وجدت نفسي أقف أمام إحدى البقالات ، فاشتريت بعض العصائر والبسكويت لندى وللأطفال الذين ستحل ضيفة عندهم إلى الغد .

ذهبت إلى بيت أختي ، شرحت لها ما جد من أحداث وكيف أن المستشفى قد قرر تنويمها ليوم واحد ، ليعرف حقيقة شكواها ، طمأنتني أختها بأن ندى ستكون بخير عندهم ، ولا داعي للقلق على غادة فستكون بخير بإذن الله .
شكرت أختي على مشاعرها ، وذهبت إلى الشفة ودخلتها ، كانت موحشة ، لا أحد فيها وقبل ساعة كانت تعج باللعب والحديث ، جمعت ملابس الأم وذهبت إلى دولاب الطفلة ووقفت أجمع ملابسها الصغيرة ، فستان ذو ألوان جميلة ، هل يا ترى ستعود لترتديه ، وهذا الفستان لا زلت أذكرها عندما لبسته كانت رائعة وهي تركض به .

ألقيت نظرة على ألعابها ، سريرها ، عرائسها ، كان كل شيْ لمسته أو لعبت به أو كانت تفرح به يجعل قلبي يخفق ، وبطني يعتصر ، لم أعد أحتمل ، فحملت بعض ملابسها وخرجت من الشقة .

وصلت إلى المستشفى ، وعرفت أنهما في غرفة 7 أ ، طرقت باب الغرفة ، فسمع صوت أمها تقول أدخل ، كانت الغرفة مستطيلة الشكل ستة أمتار في ثلاثة تقريبا ، وكان يشاركهما الغرفة امرأة أخرى مع طفل مريض ، وجدت زوجتي قد هدأت قليلا ، وغادة بجانبها تلعب بعلبة عصير جاءت مع وجبة العشاء ، أخذت ألقي بعض كلمات التفاؤل عليها ، غدا ستخرجين يا أم ندى ، غدا سيعرفون سبب عدم مشيها ، هنا أفضل من جلوسنا في البيت بقلب خائف ..

نظرت إلى غادة ، كانت بوجهها الشاحب، ونظراتها التي تخفي وراءها الكثير من الأسرار ، أسرار مرضها وأسرار ما تحس به ، أخذت أكلمها : غادة ما بك ؟ لماذا لا تمشين ؟ ماذا حدث يا حبيبتي ؟ هلا تكلمت وأرحتينا ؟ هلا أخبرتنيا ما بك ؟

تعبت من الحديث ، فتركتها وعدت أتكلم مع أمها ، التي كانت تتفحص ملابسها وملابس البنت ، جاءت إحدى الممرضات فقامت بأخذ عينة دم من وريدها ثم تمتمت وهي خارجة : النتيجة بكره ..

في السابعة أعلن عن نهاية الزيارة ، ودعتهما وقلبي يعتصر ، خرجت من المستشفى ، قررت الذهاب إلى ندى ، رحبت أختي بي وسألتني بلهفة عن غادة وأمها ،أخبرتهم أنهم أخذوا بعض التحاليل وأن النتيجة ستظهر غدا ، جاءت ندى تركض لما رآتني ، وجلست بجانبي ، أخذت أسألها هل ترغبين أن تذهبين معي الى البيت أم تجلسين تلعبين معهم ؟ كنت أدعو الله أن تقول أريد البقاء هنا ، لكنها لم تجب ، بل ظلت بجانبي وكأنها لا تريدني أن أتركها .

بعد أن تناولت العشاء ، عدت إلى البيت وحيدا ، بدأ البيت لي وكأنه كهف موحش في غابة موحشة ، خلعت ثوبي ورميت جسدي المنهك ، وبعد طول تفكير وتعب شديد استغرقت في نوم كثير الأحلام وكلي تفكير في النتائج غدا .






__________________________________________________ __________


5



بعد نوم متقطع وغير مريح نهضت من فراشي ، كنت متعبا ومرهقا ، قررت الذهاب إلى المدرسة ، حاولت أن أكون متماسكا ، لا أريد أن يحس أحد المعلمين بالأمر ، فلا أريد أن يسألني أحد عن مرضها ، فقد كنت على وشك الانهيار ..
لكن ولسوء الحظ ، قابلني معلم كثير الأسئلة ، فمجرد أن رآني حتى قال لي : ما بك ؟ وجهك شاحب ؟
- لا شيْ ..
- هل أنت مريض ؟
- لا ..
- ندى مريضة ؟
- لا .. بل غادة ..
- ما بها ؟
- لا تمشي ..
- كيف ؟ ومنذ متى ؟
- منذ يومين ..
- وماذا فعلت ؟
- ذهبت بها إلى المستشفى ..
كان يسألني وأنا أجاوبه باقتضاب ، وبقلب متماسك ، وأحاول أن أنهي هذا التحقيق بسرعة ، لكن لما طالت أسئلته ، أوشكت الانهيار ، فأخذت الكلمات تخرج مني ببطء ، فأحس بذلك توقف عن الأسئلة وأخذ يشد من أزري ، أعرف حرصه علي كزميل وصديق ، ولكن أحيانا تأتي لحظات ترغب في أن تكون وحيدا ..
كان اليوم الدراسي يمر بطيئا ، كنت انتظر موعد الخروج ، كي أذهب سريعا إلى المستشفى لمعرفة نتائج التحليل وآخر التطورات .
بمجرد أن أنهيت حصصي ، حتى خرجت من المدرسة ، وذهبت إلى المستشفى سريعا ، قفزت على السلالم ، ووصلت إلى الغرفة ، سألت أمها بلهفة عن النتائج ، فقالت يقولون كلها سليمة ، وسيعملون لها بعض الأشعات .
كانت غادة كما تركتها ، وجه شاحب ، وتلعب ببعض الألعاب التي كانت تحبها وأحضرتها لها من الشقة مساء أمس .
ذهبت إلى غرفة الأطباء ، كان فيها طبيبان باكستانيان ، هما المعنيان بعلاج الأطفال المنومين ، سألتهما عن حالة غادة ، فذكر لي أحدهم المكلف بعلاجها ، إن نتائج التحاليل الأولية لم تظهر لنا شيئا ، وسيقومون بأخذ أشعة على قدميها عصر اليوم ، سألته عن موعد الخروج فقال ليس قبل أن نعرف السبب !
عدت لزوجتي وغادة ، أخبرتهما بما قاله لي الطبيب ، وعن تأخر موعد خروجهما ، فقالت إني لم أتوقع الخروج سريعا من هنا ، سألتني عن ندى ، أخبرتها أنها بخير ، لم أذكر لها سؤالها الكثير عن أختها ولماذا أخذوها .
حضرت أختي ومعها بعض الألعاب لغادة ، لعبة تضغط على بعض الأزرار فتعطي لك أصواتا مختلفة ، أخذت تلعب بها بوجهها الشاحب وبصمت غريب .
في وقت الزيارة المسائية ، ذهبت إلى المستشفى بحثا عن خبر جديد ، خبر يحدد نوع المرض وطريقة العلاج ، ذهبت إلى غرفة الطبيب أولا ، لكنه قال لي : الأشعة سليمة وكل شيْ سليم ، لم نجد سببا ، سنجري أشعات وتحاليل أخرى .
لا أدري هل أفرح أم أحزن ؟! هل أفرح لعدم وجود مرض لدى غادة ؟ أم أحزن أن البنت تعاني ولم يكتشفوا ما بها ؟!
ذهبت لهما ، وكالعادة البنت شاحبة الوجه ، وتلعب بهدوء ببعض ألعابها ، كنت أمها متماسكة هادئة ، سألتني إن كان معي مئة ريال تريد أن تتصدق بها على الأم الموجودة معها في الغرفة ، فقد حكت لها عن سوء حالتهم المادية ، فتحت محفظتي لم يكن بها سوى مائتي ريال هي آخر ما تبقى من راتبي ، وبقي على موعد الراتب يومان فقط ، أخرجت مائة وأعطيتها إياها .
عندما جئت لزيارتهما ظهر الغد ، ذكرت زوجتي أن أخوها زارها ، وأعطاها مائة ريال ، أعطتها لي وقالت مئتك عادت لك ، تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ما نقص مال من صدقة بل تزده )
في المستشفى هدأت أعصابنا قليلا ، لكن سر عدم المشي يؤرقنا ، الفحوصات الأولية تقول إنها سليمة ، ومضى يومان ونحن نعيش هدوءا لم نكن نعرف أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة .





__________________________________________________ __________


6


بعد مضي يومين من وجودها في المستشفى بدأت حالة غادة تتطور ، وأصبحنا نشاهد أعراضا أخرى للمرض الغامض، ولكنها أعراض لا تحتمل ..
فبعد يومين من جلوسهما في المستشفى ، لاحظت الأم إزدياد رعشة يد غادة ، فقد بدأت ترتعش في كل لحظة ، بعد أن كانت ترتعش سابقا عند تركيزها على فعل شيْ .
كان منظرها وهي ترتعش منظرا مخيفا ، تقطعت له قلوبنا ، وانهمرت له دموعنا ، ..
ربّاه .. ماذا يحدث وأي مرض هذا الذي بدأ يفتك بهذه الزهرة الصغيرة ، رباه لطفك بنا .
في اليوم الرابع بدأت الحالة تسوء أكثر ، فقد لاحظنا أن عيونها بدأت تتقلب ، حيث يختفي سواد العين ثم يعود مرة أخرى .
بكت أمها وعلا نحيبها ، وهالها المنظر ، فقد كانت المسكينة ملازمة لها طوال الوقت ، حار الأطباء في تفسير ما يحدث أمامهم ، وضاعت سبلهم ، ولم يجدوا تفسيرا لما يشاهدون .
وكان كل ما يفعلوه هو أجراء تحاليل جديدة لأمور أدق ، تحاليل للدم دقيقة ، اختبار أعصاب ونحوذلك مما لا أذكره .
كان كل من يحضر لزيارة غادة ، يخرج وهو يبكي ، أحس بأن البنت تحتضر ، وأخذ يشفق علينا ، حتى من كانت أعصابه قوية انهار أمامنا ، وأخذ يدعو لنا بالثبات .
كان منظر غادة وعيونها تتقلب ، ويداه ترتعشان ، منظرا لا يحتمله إنسان، منظرا يهز الكيان ، يفقده توازنه ، ويجعله يضطرب لا يدري ماذا يفعل .
رحماك رحماك بنا يا الله ، رحماك إنها ابنتنا .. رباه فالطف بها وبنا ..
ضاقت بنا الدنيا بما رحبت ، أحسسنا أن البنت تنهار أمامنا ، وأننا سنفقد ابنتنا ، ذهبت إلى الطبيب ، طلبت تفسيرا لما يحدث ، هزّ كتفيه لا يدري !
صرخت به : أيعقل هذا ؟! طبيب أطفال لا تدري أي مرضٍ تشكو منه غادة ؟! ومع هذه الأعراض الواضحة ؟!
- أحتاج إلى مزيد من الفحوصات .. رد على باقتضاب ..
- لقد ملأتم يدها ثقوبا من كثرة التحاليل دون فائدة .
- هذا مرض غامض لم نعهده من قبل !
- وأي فحوصات تريد ؟
- أشعة مقطعية للمخ ؟
- أتعتقد أن المخ هو السبب ؟
- يبدو ذلك ..
زاد خوفي بعد سماع كلمة ( المخ ) ، وبدأ قلبي يخفق بشدة ، أتراها النهاية ، عدم مشي ثم يد ترتعش ثم عينان تتقلبان .. ليس له تفسير سوى المخ الذي يقول ، هل هذا قدرها أن تعيش ما كتب الله لها ثم .. ، تعوذت من الشيطان الرجيم ...
عدت لزوجتي بوجه مختلف ، وجه مرعوب ، حاولت أن اصطنع ابتسامة صغيرة ، لكنها لم تستمر فقد ذهبت مع أول نظرة لغادة ، كانت يدها ترتعش ، وعيناها تتقلبان ، أحسست بأن هذه الأيام هي أيامها الأخيرة .
سألتني أمها :
- ما بك ؟
- لا .. لا شيْ ..
- ماذا قال لك الطبيب ؟
- لم يقل شيئا ..
- وجهك يقول خلاف ذلك ..
- يريدون عمل أشعة للمخ .. مجرد احتياط ..
- المخ ؟! ثم أجهشت في بكاء مرير ..

في صباح يوم غد ، قرر المستشفى عمل أشعة مقطعية للمخ ، جهزوا سيارة اسعاف ، واصطحبوا الأم وغادة ومعهما ممرضة، وانطلقوا نحو مستشفى الرياض المركزي ( الشميسي ) ، وعندما وصلوا هناك قاموا بتخدير البنت ثم وضعوها في جهاز الأشعة ، وبعد ثلث ساعة تقريبا انتهوا من الأشعة ثم عاد الجميع ، على أن تخرج النتيجة صباح الغد .







10



ذهبت إلى غرفة الأطباء ، كان ثلاثة من الأطباء جالسين حول طاولة ، وقطعوا حديثا كان يدور بينهم باللغة الانجليزية ، رحبوا بي وحركوا كرسيا وطلبوا مني الجلوس .
احسست بأن في الأمر شيئا ، هل يا ترى عرفوا المرض ، ولصعوبته لم يستطع أحد منهم أن يخبرني به منفردا ، وفضلوا أن يخبروني به مجتمعين ؟! أم تراهم اتفقوا على تشخيص مرضها بأنه ضمور في المخ ؟ أم أنهم سيطلبون مني أن أحمل ابنتي وأرحل من هنا ، فقد فضح مرضها مستواهم المهني .؟!
كنت في حالة تسمح لي أن اسمع منهم أسوأ خبر ، فمن يرى البنت سيكون مهيأ لذلك ، جلست على المقعد ، نظرت إليهم ، كانت أمامهم ورقة عليها رسومات ، هيكل عظمي ، وعمود فقري وصور أخرى لم أتبينها ..
تحدث الطبيب إياه فقال : أستاذ عبدالله .. إن ابنتك تشكو مرضا غامضا ، كل تخميناتنا ذهبت سدى ، كل ما توقعنا شيئا ظهر لنا عكسه ..
قلت : وماذا عن ضمور المخ الذي قلت لي قبل قليل ؟
قال آخر : لم يتأكد لنا ذلك علاوة على أن الأشعات أظهرت سلامة المخ .. لكنه مازال احتمالا قائما ..
عاد طبيبها يقول : يبدو أن ابنتك تحمل مرضا جديدا ، لذا بقي احتمال أخير ..
قلت : وما هو ؟
قال : يجب أن نأخذ عينة من النخاع الشوكي ؟
قلت : ولماذا ؟
قال الثاني : نشك في مرض لم نتأكد منه بعد ، حتى نقوم بتحليل عينة من النخاع الشوكي .
مد الطبيب إياه ورقة وقال : من فضلك وقع هنا ..
قلت : وما هذه الورقة ؟
قال : موافقتك على سحب العينة .
أدركت أنهم يقصدون مرض السرطان ، حتى وإن لم يسموه لي ، فلدي معلومات كافية عنه .
نهضت من مقعدي ، وقلت بحزم : لا .. لن أوافق ..
نهض أحدهم وقال : ولماذا ؟
قلت : لن أوافق على أن تأخذوا منها عينة ، فأنا أعرف يقينا حساسية عملية أخذ عينة من النخاع الشوكي ، فخطأ صغير قد تصيب الابرة العصب فيحدث الشلل ..
رد الثالث الذي كان صامتا لفترة طويلة : لا تخف ، فلدينا خبرة طويلة في مثل هذه النوعية من الأمور .
قلت : مع تقديري لخبرتكم .. إلا إني لن أوافق أبدا على أمر كهذا .. فإن كتب الله لابنتي الحياة فستحيأ بدون سحب هذه العينة ، وإن كتب الله لها الموت فستموت لا محالة ..
خرجت من عندهم ، وأنا مصمم على رأيي الذي اتخذته ، كان لدي قصص عن أناس أصيبوا بالشلل نتيجة لهذه العينة .
ظلوا طوال ذلك اليوم يحاولون معي ، بل تعدوا ذلك فكلما جاء أحد يزورنا طلبوا منه أن يقنعني بالقبول ، لكني كنت أشرح لهم رأيي ووجهة نظري .
خرجت من عندهم والهموم تعتصرني ، سرت في الشوارع بسيارتي أهيم بها لا أدري أين أذهب ، أصبحت الرياض على كبر مساحتها سجن صغير ، أصبحت كئيبةفي نظري ، أصبحت أشم رائحة الموت في كل ركن من أركانها وفي كل جزء من أجزائها .
كنت قد تناولت غداء بسيطا لكني لم أحس بالجوع ، عند إحدى الإشارات وقفت بسيارتي ، التفت يسار شاهدت طفلة في عمر غادة ، كانت تلعب في الخلف ، تضحك وتبتسم وتتكلم بلكنة جميلة ، تذكرت غادة كانت تلعب مثلها ، وكانت تتكلم وكانت ..
تحركت السيارات واختفت تلك البنت في الزحام ...
تذكرت ندى ابنتي الوحيدة ، خفق قلبي ، تحركت نحوها ، دخلت بيت أختي ، أسرعت ندى عندما شاهدتني وارتمت في حضني ، حضنتها وقبلتها ، أحسست بأنها ستكون ابنتي الوحيدة ، وستفقد أختها ، سألتني عن أمها وعن غادة .. ومتى سنعود إلى بيتنا ؟
تماسكت حتى انتهى سيل أسئلتها ، قلت لها ألا تريدين أن تذهبي إلى أمك ، هزت رأسها موافقة ، قلت لها غدا سآتي لآخذك إليها .
أردت الذهاب إلى الشقة لكني وجدت صعوبة في اقناعها أن تتركني أخرج من بيت أختي ، كانت ممسكة بي وبقوة وهي تبكي .