عنوان الموضوع : رواية(اللعب بالدم ) رواية جديدة
مقدم من طرف منتديات الشامل

اللعب بالدم

منذ الفجر الأول بعد الليل الأول

دائماً كان هناك فجر يشرق، تكون قبله ليلة اسمها " البارحة"

تمتلكها ذاكرة سرية لا تعطي أسرارها إلا لمن يملك مفاتيحها، هذه المفاتيح المعقدة، لذا فكل ليلة قبل الفجر أعيش مع البارحة، فأذكر كل تلك السنوات التي نسميها عمراً أو حياة ندعي أننا عشناها . أذكر كل تلك البارحات فكأنما أوقظها من رقدتها لنشرب فنجاناً من القهوة في حديقة المنزل أو نسمع دور سيد درويش " أنا هويت وانتهيت " ثم نقيم معاده يرتفع فيها العويل إلى عنان السماء.

- أيتها المرأة لا توقظي الجرح.

قال القلب

- أيها القلب من أين جاءتك الحكمة ؟..

قال الجرح .

-أيتها المرأة كوني لا ئقة بي على الدوام .

قال العشق

وانطلق سرب من الحساسين في سهوب الذاكرة، يبحث عن أعشاش وبيوض دافئة دفء الدم الظامئ أبدا للملح .

ومثل عراف بارع استحضر عيونك، أحدق في سوادهما الماثل أمامي براقاً وعميقاً وكتيماً ورجراجا مثل القهوة ثم أبدأ بتلاوة اعترافاتي وقد بدت الغرفة البيضاء، والملاءات النظيفة وصورة الطفل العاري أمامي مكاناً مثالياً لذلك الطقس، فتركت نفسي على سجيتها تتدفق ساقية من ماء يندفع نحو الجذور، وينسرب فيها فتدب خضرة الحياة في الساق والأوراق واليباس.

***

- أيتها المرأة هذا العشق ملعون لايغسله غير الدم .

- قالت العادات .

- هذه العادات لا ينفع فيها شيء لأن العفن يأكلها .

قال الدم . واندفعت الذكريات في البال حمى من الوجد والنار الكاوية والنشيج، فاستعدت وجه أمي وقد ملأت الدموع عينيها الصغيرتين بعد صلاة طويلة تهجدت ودعت خلالها طالبة من الله أن يحد من طيشي وجنوني لأنها أدركت أنني ألعب بدمي، ولا آبه بألم واستمع لنصيحة فهاهم يعودون من المشفى بعد أن استخرجوا شظية زجاجية مزقت باطن قدمي وانغرزت فيه .

- لقد نزفت حتى كادت تموت.

قال أخي ... ثم تابع :

- لم يبقَ فيها دم سيقتلها فقر الدم.

ويوم جمعت زهرة الثلج، نفضت عنها ثلجها، واحتفظت ببياض الزهرة إلى جانب الزل ووردة القندريس، ضحكت أمي من عبثي الطفولي وعلقت وما عرفت أن اللعب بالدم أوله زهرة الثلج البيضاء.

***

ومثل زهرة الثلج البيضاء

كان كل ماحولي أبيض، الغرفة والجدران والوجوه ولباس الممرضات والأطباء، وأنا في غيبوبة بيضاء، بينما الدم في شراييني يتحرك يسري بصهيل صاخب، أحسه مثل نهر، وتعاودني الأطياف، تعاودني أمي وهي تلم شتائمها وتحوقل أمام عنادي وتصميمي على أن نأكل " حلوا" في تلك الليلة .

- لمَ الليلة تحديدا..؟

سألني رفيق أخي .. فأجبته :

- لأن الليلة عيد ميلادي .

كنت يومها في العاشرة من عمري فضجوا بالضحك جميعاً . ولم أطالب بالكثير فأنا اعرف فقرنا ..... لم أطالب بشموع أو قوالب كاتو، كل ما أردته شيئاً حلوا، لقم القاضي أو مشبكا(1) وقادتني أمي من يدي، كانت الشوارع شبه خالية فقريتنا الكبيرة تنام باكراً . وكنت أرى أعمدة الكهرباء وكأن مصابيحها شموع تضيء لي، وأمام بائع الحلوى البدين وقفت وصحت أنا:

- اليوم عيد ميلادي ياعم، فتوصى بالمشبك .

- تكرم عيونك.

قال الرجل ضاحكاً، وتمنى لي عمراً طويلاً، بينما تمنيت حديقة من زهر الثلج الابيض الجاف والقندريس البري والزل وطيور البط والدراج والكراكي مما أراه أحياناً على ضفاف الفرات. ويوم كبرت عرفت الوجد الحقيقي لقريتي الكبيرة

عرفت شيئاً شرسا يمتد بأذرعه الألف اسمه العادات والتقاليد فيه ما يجوز وما لا يجوز، عرفت تنينا اسمه العشيرة رهن الجميع عنده دمهم فلا مهرب لهم منه.

وفهمت معنى الدموع في عيون العذارى ليلة زفافهن لانهن تزوجن كما يريدون لا كما يردن، فهمت لماذا تلبس معظم النسوة السواد وعيونهن ترتجف وتدمع أمام المقابر في الأعياد.

ولم أعد أضحك كثيراً بعد ذلك .

* * *

ويوم تفتح جسدي عن دم وثمار محرمة وطيبات . فاجأتني كثرة العيون النهمة من أبناء العمومة، كانت تنظر إلي وكأنها تراني لأول مرة، ولم أهتم، بدأت الابتسامات والإشارات السرية والرغبات تحاصرني، ولم أهتم، كان قدراً غامضاً صهيل جسدي إلى عالم آخر، وكانت أمي تردد:

- متى أزوجها وأرتاح..؟

ثم تلوي عنقها كما تلوي بجعة عنقها في بركة ثم تروح في دعاء طويل وتوسل خاشع لا ينتهي.

***

ويوم ظهرت لم أفاجأ بك .

كنت أعرف من قبل وكأنني عشت معك في عصر سابق، فأنا أحفظ لون عينيك، وشكل وجهك وخطوط كفك، وطول قامتك، كنت بانتظارك كما تنتظر شجرة غريبة عطشى غيمة ماطرة ،ومنذ اللحظة الأولى كنت أعلم أن حبنا مستحيل، فأنت غريب، العشيرة تنين يكره الغرباء ويرتهن دم أبنائه وبناته ولا مفر لهم منه.

- حبنا مستحيل .

صحت بي، فأجبتك:

- أنت خائف..؟

- خائف عليك لأنني أضن بعنقك هذا على الذبح .

أمسكت بأصابعك الخمسة بين أصابعي وأقسمت كما تقسم أمي أمام نسوة الحي أحياناً : بحق هذه العشيرة وعشرة رسول الله لن أكون لغيرك.

كان قسماً مجنوناً، وكنت أعلم أنني ألعب بدمي، ومضينا، تركنا القرية الكبيرة والناس والنهر، وكنت لي الأهل والوطن والحضن الدافئ، ولأن العالم يصبح صغيراً أصغر من راحة الطفل للخائفين انطلق أبناء العمومة والأخوة ككلاب الدم خلفي، يحملون خناجرهم ومسدساتهم واحقادهم ولعنات العجائز .

- لا توقظي هذا الجرح المتخثر دمه على فم المرأة

قال القلب

- تظلين لائقة بي يا امرأة عنيدة .. قوية ..

قال العشق

- لمن يتم تسليم جثة الصبية للزوج .. أم للأهل ... أم للمدافن ..؟

قال الطبيب.

ومن ورائه أطل وجه أمي دامع العينين يدعو الله أن يغفر لي لعبي بالدم، وأطل وجهك حزيناً بين يديك باقة من الزهر الأبيض تطل أمامي.

وركض دمي في الشرايين كصبية تلعب .لأول مرة منذ ولدت أتذوق طعم دمي، وأشم رائحة الحياة كما أشم عبق تلك اليدين وقد اختلط فيهما رائحة العرق والدم برائحة الزهر الأبيض من يد جنيني الذي لم يكمل الشهرين بقلبي.

>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

مشكور اخي على الموضوع الحلو وتقبل مروري

__________________________________________________ __________
يسلمو كثير كثير على الموضوع
الرائع

__________________________________________________ __________
يسلمووو على الموضوع الرائع
الله لا يحرمنا جديدك

__________________________________________________ __________
أرجو أن ينقل لقسم القصص

__________________________________________________ __________