[BACKGROUND="100 #000000"]
قاربوا وسددوا
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
قَارِبُوا وَسَدِّدُوا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلا أَنْتَ ، قَالَ: وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ
[رواه مسلم]
النبي الكريم في هذا الحديث يبين مجموعة من الحقائق الدقيقة في العقيدة : الجنة سببها العمل الصالح ولكنها بفضل الله عز وجل وليس من الصعب أن توفق بين أن تكون الجنة بالعمل، وبين أن تكون الجنة بفضل الله عز وجل، هي بفضل الله قولاً واحداً لكن فضل الله عز وجل لا يناله إلا من دفع الثمن ألا وهو العمل، فإذا دفع الثمن وظننت أن هذا الثمن هو كل شيء عندئذٍ لن تصل إلى الجنة، لن تبلغ الجنة إلا إذا تيقنت أنها بفضل الله،
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَلا أَنْتَ، قَالَ : وَلا أَنَا
فأوضح وأقرب مثل عندما يعد الأب ابنه بهدية ثمينة جداً إذا نجح،ولتكن دراجة غالية الثمن، يا ترى ابنه بمجرد ان أخذ جلائه وكُتِب عليه ناجح هل هذا الجلاء يكفي ليعطيه للبائع فيعطيه دراجة ؟ لا، هذه الدراجة لها ثمن وعلى الأب أن يدفع الثمن، ولكن سبب إهداء هذه الدراجة للابن هو النجاح فصار العمل سبب و ليس العمل سبب هو كافي أو أخير أو كافي لدخول الجنة، فالإنسان إذا عمل عملاً صالحاً واستقام على أمره وظن أنه استحق الجنة استحقاقاً قطعياً، وأنه أخذها بجهده، وعرق جبينه، ومجاهدته نفسه وهواه، هذا خطأ كبير، وإذا ظن أن الجنة ليست بالعمل لكنها للأمل أيضاً وقع في خطأ كبير .
مثل آخر : لو أن عم قال لابن أخيه اليتيم : ادرس، فإذا درست ونجحت فأنا أنفق عليك حتى آخر سنوات الجامعة، فدرس هذا الابن ونال الدرجة الأولى في العام الأول، تابع العم إنفاقه على ابن أخيه، في العام الثاني نال الدرجة الأولى تابع العم إنفاقه على ابن أخيه إلى أن صار ابن أخيه في أعلى درجة علمية ونال بها أعلى درجة اجتماعية، مرة من المرات في جلسة ودية بين العم وبين ابن الأخ قال ابن الأخ : والله يا عمي لولا فضلك وإنفاقك عليّ لما كنت بهذه المرتبة الاجتماعية، كلام صحيح، فأجابه العم : والله يا ابن أخي لولا اجتهادك لما أنفقت عليك، فكلام العم وابن الأخ صحيح، فلو لم يكن مجتهد لما استحق هذا الإنفاق المستمر، ولولا أن هذا العم أنفق على هذا الابن لما نال هذه الدرجة، فهذه الدرجة نالها ابن الأخ بجهده وفضل العمل، فالجلاء الذي كتب عليه الجيدات ونال صاحبه الدرجة الأولى مع كل هذا الجهد المبذول طوال العام الدراسي لا يكفي هذا الجلاء كي تقتني به دراجة غالية الثمن، هذان المثالان يقربان معنى.
هذا الحديث فهمه بعض الناس فهماً مغلوطاً فلم يعمل واتكل على الأمل، وأخطر شيء في حياة الإنسان أن يتكل على الأمل ويترك العمل، وبعضهم فهم هذا الحديث أن الجنة بالعمل فقط، ويكون بذلك استغنى عن الله عز وجل،
هناك معاني دقيقة منها أنه سبحانه وتعالى إله ومعنى إله لا يجب عليه شيء فهو خالق الكون رب العالمين لا إله إلا الله، فليس عليك أن تتفاوض معه دفعت زكاة وقمت بالحج فأين الجنة ؟ من أنت لتقول هذا ؟ أنت عبد، هذه حقيقة أساسية في العقيدة، الذي ترجوه منه بفضله وعملك ثمن لفضله، عندما تدفع ثمن شيء نقول : أن هذا ثمن يكافئ هذه الحاجة، فلو دخلت لمكان تجاري بكم هذا الكأس ؟ بخمسة وعشرون ليرة، تفضل هذا ثمن الكأس، وليس له فضل عليك، فلو الله عز وجل قال لك : كل الذي فعلته في حياتك لا يكافئ نعمة البصر، ونعمة السمع، ونعمة النطق، ونعمة العقل والسلامة، ونعمة الزوجة والولد، ونعمة البيت والمأوى، ونعمة الهواء والماء، هذا كله لا يكفي لتنعم بهذا الفضل من دون أن تعتقد أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته،
وفضل الله على عباده أوسع من أعمالهم والله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء، أما قول الله عز وجل :
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
[سورة النحل]
أي أن هذا الفضل الإلهي جعل الله سبحانه وتعالى ثمنه هو العمل فالعمل ثمن الفضل، وليس معنى ذلك أن هذا العمل كافي لدخول الجنة،
قَارِبُوا وَسَدِّدُوا
فالمقاربة القصد الذي لا غلو فيه، فأحياناً يمكن أن تبالغ، خير الأمور الوسط، الاعتدال والتوسط بين التطرف هو المنهج الصحيح،ففي إنفاق المال لا إسراف ولا تقطير، لا إفراط ولا تفريط، في اللباس : هناك من يبالغ في لباسه إلى درجة أنه يستهلك معظم ماله من أجل الثياب، وهناك من يهملها، كلا الحالين خطأ، ففي كل شيء الاعتدال خير الأمور
لذلك قال بعضهم : الحق وسط بين طرفين ، والقول الشائع خير الأمور الوسط
قَارِبُوا
أي اعتدلوا
قال الله تعالى:
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)
[سورة الفرقان]
فالإنفاق في كل شيء
فسيدنا عمر رأى رجلاً يقرأ القرآن في النهار فقال :
إنما أنزل هذا القرآن ليعمل به أتخذت قراءته عملا ؟
قيمة العمل هذا شيء مهم جداً، فالإنسان يحتاج إلى عمل، والأمة تحتاج إلى عمل،
النبي الكريم رأى رجلاً يصلي طوال النهار فقال عليه الصلاة والسلام :
من ينفق عليك ؟ قال : أخي، قال: أخوك أعبد منك
النبي الكريم يقول :
والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خيرلي من صيام شهر واعتكاف في مسجدي هذا
فأن تقوم بخدمة الناس بتيسير مصالحهم وتلبية حاجاتهم هذا هو جوهر الدين،
وَسَدِّدُوا
فالسداد أي الاستقامة كيف أنه بين نقطتين لا يمر إلا مستقيم واحد ! كيف أنه تقوم بتصحيح مسارك وأنت تقود السيارة بتحريك المقود والمراقبة الدائمة لتبقى ضمن مسارك الصحيح ، فهذا هو التسديد أي التصحيح، فالمؤمن يصحح دائماً يا ترى هذه الكلمة مناسبة ؟ لا فيها غيبة، أو سخرية،
ألم تسمعوا قول النبي الكريم في مخاطبته للسيدة عائشة يوم قالت عن أختها قصيرة : قال :
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا فَقَالَ : مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ : فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ، وَقَالَتْ : بِيَدِهَا هَكَذَا كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ : لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ
[الترمذي]
كلمة قصيرة تكفي، فالمؤمن يسدد أقواله
قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
[سورة الأحزاب]
يا ترى في البيع والشراء هل يرتكب مخالفة ؟ هل أخف العيب ؟ هل دلّس وأوهم الشاري أن هذه البضاعة ذات منشأ من الدرجة الأولى ؟ هل أوهم الشاري أن هذه البضاعة اشتراها بالسعر المرتفع الثمن ؟ قاربوا وسددوا أي كونوا في حالة الاعتدال لا إسراف، ولا تقطير، لا إفراط ولا تفريط، لا مبالغة ولا جحود، وأما سددوا دائما فكروا في أقوالكم
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ حتى يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ
[مسند الإمام أحمد]
يا ترى هذه الكلمة فيها سخرية أو استهزاء أو كبر، سيدنا جعفر رضي الله عنه سأله النجاشي عن الإسلام لم يقل له الإسلام صوم وصلاة وحج وزكاة، قال :
كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رسولاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ونخلع ما كان يعبد آبائنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث
فالمؤمن لا يكذب، يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة، إذا كذب فليس مؤمناً، إذا خان مطلق الخيانة، كأن يخون أسرته وأهله وزوجته ووطنه وأمته ليس مؤمناً قولاً واحداً، أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، فالأمانة أشفقت من حملها السماوات والأرض، المدرس طلابه أمانة، الطبيب المريض أمانة بين يديه، المحامي هذا الموكل قضيته أمانة بين يديك، أنت كمهندس هذا المشروع الذي تشرف عليه أمانة، لذلك السماوات والأرض أشفقت من حمل الأمانة، قاربوا وسددوا وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء،
فالنبي الكريم يقول
قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا :ولا أنت يارسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل
[رواه مسلم]
هذا الحديث دقيق جداً لا ينبغي أن تتكل على العمل ولا أن تفقد الأمل، لا ينبغي أن تعتقد أن الجنة بالعمل فقط إنه جهل بل هي بفضل الله، ولا ينبغي أن تعتقد أن الجنه يحصل عليها الإنسان بلا عمل، العمل جعله الله سبباً لفضل الله عز وجل هذا مؤدى الحديث،
قال الله تعالى:
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)
[سورة النحل]
هذه من الآية دقيقة جداً، لماذا لم يقل الله عز وجل : وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها ؟ بل قال : نعمة الله أنه الأولى و إن تعدوا نعم لا تحصوها فقال نعمة وهي مفرد تحصوها جمع فقالوا العلماء بتفسير هذه الآية النعمة الواحدة لو أمضيت كل حياتك في تعداد فوائدها لا تنتهي،
إذا كنتم عاجزين عن إحصائها فأنتم عن شكرها أعجز، ولنفرض أنه جاءك مولود وقدموا لك الهدايا الأهل والأصحاب فمرة سهرت مع زوجتك وقلت لها أحضري ورقة وقلم لنرد الهدايا فكتبت فلان طقم، فلان قطعة ذهب .. يا ترى الإحصاء أسهل أو الرد والدفع ؟ فإذا كنتم عاجزين عن إحصائها فأنتم عن رد ثمنها وشكرها أعجز،
فمفاد هذا الحديث أن تعمل، وتستقيم على أمر الله، وأن تدعو الله أن يدخلك الجنة، فأجمل ما قيل في هذا الموضوع: أن النبي الكريم كان عند أحد أصحابهم الذين توفاهم الله عز وجل وهو السائب، فرفع عن وجهه الرداء وقبله وسمع امرأة تقول خلف الستار : هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله، لكن النبي لم يصمت لأن كلامها غير صحيح بل قال :
ومن أدراكِ أن الله أكرمه ؟ أتعلمين الغيب ؟ قولي : أرجو الله أن يكرمه
قال رسول الله :
وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم !
فالإنسان تحت ألطاف الله عز وجل، فمجرد أن تتجمد نقطة دم بدماغه يموت، أو يشل أو يجن حسب مكان الإصابة، أو يفقد السمع، أو البصر، .. فأنت بيد الله، فالمؤمن يعرف حجمه بالتحديد، رحم الله عبداً عرف قدره فوقف عنده .
والحمد الله رب العالمين
[/BACKGROUND]